قبل الخوض في قضية تشارلي كيرك فإن ثمة حقائق واجب التنبيه إليها لتصويب بوصلة الحديث، فبدونها سيظل التعجل والإشاعات التي سادت هو الأمر الطاغي بما يٌضيع بوصلة التحليل والنقاش.
(1)
لم يتم تحديد هوية القاتل نهائيًا، وبالتالي لا أحد يعرف دافعه نهائيًا، وما قاله كاش باتيل مدير الإف بي آي لم يكن سوى محاولة تسجيل نقاط باستباق الإعلان قبل غيره. وقد نفى حاكم ولاية يوتا الأمر في المؤتمر الصحفي الذي عقده مع آخرين ليلة الأربعاء بتوقيت واشنطن، متوعدًا المنفذ بالوصول إليه.
وقد أفرج عن الرجل المسن الذي انتشرت صورته باعتباره المنفذ، في حين أنه كان محتجزًا وليس مشتبهًا به رئيسيًا، وتم التحقيق معه سريعًا ولم يوجه إليه التهمة رسميًا.
وتعد الرواية الأقرب هو ما قاله مسؤولون أمريكيون لمؤسسات إعلامية منها فوكس نيوز بأن المشتبه به كان يرتدي زيًا داكنًا بالكامل وأن الرصاصة صوبت من مكان عالٍ.
يدعم هذا الافتراض، مقطع فيديو عرضته قناة سي إن إن، لرجل يجري فوق بناية عالية داخل أو في محيط جامعة وادي يوتا التي وقعت فيها الحادثة، بما يعني أن الأمر مدبر ونُفذ بواسطة قناص محترف أو متمرس حتى تكون الإصابة بهذه الدقة من رصاصة واحدة ومن هذه المسافة وسط الحشود.
لذلك فالقفز على أسباب الحادثة المباشرة واعتبار أن فاعليها بالضرورة يساري أو مؤيد لفلسطين أمر فيه من التسرع والتمني والقولبة بأكثر ما فيه من الدقة والحقيقة.
(2)
ما يلفت النظر في البحث عن دوافع القاتل المجهول الذي بدا وأنه متمرس أو عند الحد الأدنى ليس شخصًا عشوائيًا، هو ما ضج به تويتر والسوشيال ميديا في الولايات المتحدة من أن القاتل هو «الموساد الإسرائيلي» أو «الإسرائيليين».
نعم أنت قرأت هذا بشكل صحيح، وأصحاب هذه النظرية ليسوا يساريين راديكاليين أو عرب مؤمنين بنظرية المؤامرة، بل أشخاص ينتمون لليمين الأمريكي، يمكن البحث عنهم بشكل سريع على الإنترنت.
جزء من تفسيرهم أن الإسرائيليين هم من فعلوا هذا، أن الرجل بدأ يظهر علامات تأثر بتيار في حركة ماجا يتساءل عن دور إسرائيل في أمريكا وتأثيرها عليها، وهو تيار موجود أشرت إليه سابقًا في منشور قديم، وتعد ماري تايلور جرين النائبة الجمهورية والمقربة من ترامب أيضًا من كباره.
وبحسب الكثير من «الثريد» على تويتر، فالرجل كان يجهز لاستضافة مناهضين لدور إسرائيل وفتح المجال لهم للتحدث. فهذا الشاب ذو الـ31 عامًا لديه ملايين من المتابعين أغلبهم شباب المسيحي الإنجيلي الذي هو خزان الدعم لإسرائيل وللحزب الجمهوري.
(3)
وبغض النظر عن الحسم فيمن هو المنفذ، يساري متطرف أو صهيوني فإن المؤكد أن هذه الحادثة سيكون لها ما بعدها في التاريخ الأمريكي دون مبالغة، فالرجل يعد صاحب أكبر شعبية بين شباب المسيحيين الإنجيليين لاسيما من هم في المرحلة الجامعية ومن الأكثر تأثيرًا على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية بمتابعين يصل عددهم إلى ما يفوق العشرة ملايين على المنصات المختلفة، لكنه وهو الأهم رمز لفكرة استعادة المسيحيين البيض لمكانتهم ولهيمنتهم ومن ثم فالشهرة ليست نابعة من الترفيه، لكنها شهرة ممتزجة برمزية وأيدولوجية محركة لملايين الشباب، وهذه طعنة غادرة لهم ونيل من أرواحهم جميعًا.
هذا الأمر يتجسد في ردة الفعل غير المسبوقة من السياسيين جميعهم، على رأسهم ترامب الذي أمر بتنكيس للعلم الأمريكي حتى يوم الأحد السادسة مساءً بتوقيت واشنطن، فيما وقف مجلس النواب دقيقة حداد خلال جلسة تصويتية وأصدر رؤساء سابقون، مثل جورج بوش وأوباما وكلينتون بيانات إدانة وتحذير من العنف. وقد قام أعضاء مجلس النواب بالصياح ضد بعضهم بعد تلك الدقيقة للحداد وتبادلوا الاتهامات بالمسؤولية عن العنف.
لكن ردة الفعل الكاشفة هي لفيديوهات من الشباب اليميني يتوعد فيها التيار الليبرالي في الولايات المتحدة، ويعتبر أن ما جرى هو «حرب»؛ محملين اليسار والليبراليين مسؤولية القتل، وهذا قبل أي تحقيقات.
لذا فإن التيار اليميني بات بداخله نظريتان في الاتهامات، الأول يتبنى الصورة العامة المنطقية، وأن المنفذ يساري أو ليبرالي ضد ما يعتبره تطرفًا في الأجندة الخاصة بتشارلي لاسيما في الجانب الخاص بالقضايا الاجتماعية، بينما يرى التيار الآخر أن الإسرائيليين هم المسؤولين عن الواقعة ويقدمون أدلة كثيرة عن أنه بات قريبًا من الابتعاد عنهم أو عند الحد الأدنى توفير منصات لمناهضين لها لعرض وجهة نظرهم.
(4)
هذه الحادثة كبيرة جدًا وستؤثر في مسار الولايات المتحدة الأمريكية الداخلي بشكل جذري، وكما كانت حادثة تشارلوت فيل، أغسطس 2017، يؤرخ لها كحدث فارق في تصاعد حالة الاستقطاب في فترة ترامب الأولى.
فإن هذه الحادثة ستكون فارقًا على تصاعد حدة العنف على خطوط اجتماعية وأيدلوجية وثقافية، وأذكر أن مجلة بوليتيكو أو جريدة يو إس تو داي، واحدة منهما على ما أتذكر، قد اعتبرت في فترة ترامب الأولى أن أمريكا تعيش «حربًا أهلية ثقافية».
يغذي هذا الأمر، حالة الشعور بالاستياء من أن ترامب بسلطاته الفيدرالية ينشر الجيش مسلحًا في مدن وولايات ديمقراطية، بدعوى مواجهة الجريمة فيها مع ارتفاع حدة خطابه ضد الليبراليين والديمقراطيين واليسارين؟
(5)
لذا فإن خلاصة القول هو أن نظريات كثيرة ستروج، وأن الاحتقان السياسي والثقافي سيتحول من سجال تقليدي إلى ربما شيء فيه حدة وعنف وصدام على خلفية أي المرجعيات والقيم هي التي يجب أن تتواجد في المجتمع، الإضافة إلى قياداته، وبشكل أو بآخر ستحضر قضية فلسطين في النقاشات العامة. وسيقلق هذا الحادث النخبة الأمريكية وقياداتها الأمنية، وسيزيد من النقاش حول قضية السلاح بين المطالبة بمنعه، والدعوة لامتلاكه.
وهذا الحادث كاشف أيضًا لهشاشة تقارب المجتمع الأمريكي على المستوى الثقافي والأيديولوجي، وأن صراعات النخب في واشنطن لا تجعلها تنتبه بأن أمريكا بالفعل تتشكل من جديد وتبحث عن قيم حاكمة جديدة وسط أسئلة تعيد التشكيك في كل شيء وصلاحيته. لا أعتقد أن المجتمع الأمريكي سيعود كما كان بعد هذه الحادث كعلامة فارقة في تشكله بين مرحلتين.